"قدسوا صوماً، نادوا باعتكاف" (يوئيل 15:2).
"بالرجوع والسكون تخلصون، بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم" (أش 15:30) فى بدء الخليقة، أعطى الله للإنسان وصية أن يصوم عن شجرة معرفة الخير والشر... ثم أوهم الشيطان الإنسان أنه إذا أكل فسوف يعرف.. وعندما سقط الإنسان فى هذا الإغراء.. ظل يعيش فى وهم شيطانى أنه لن يحيا إلا إذا أكل "نأكل لنعيش"، حتى صارت (لقمة العيش) هدفاً لحياة الإنسان، يتعب ويشقى ويعمل، بل ويعيش من أجل (لقمة العيش؟!).
وظلت هذه الخدعة تعمل فى قلب الإنسان، حتى جاء المسيح ففضح وهم الشيطان، عندما صام أربعين يوماً على الجبل.. ثم صاغ خبرته الصيامية فى عبارة صغيرة "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان". وهنا انكشفت ألاعيب الشيطان، وعرفنا أن مصدر الحياة هو كلمة الله، وليس الخبز وحده، بل أن الخبز هو معين للجسد لسد احتياجاته من الطاقة ليعمل وينشط، ويتحرك فى اتجاه الملكوت الأبدى.
أ - لماذا نصوم ؟
نحن حينما نصوم، إنما نرجع إلى حالة الإنسان الأول قبل السقوط الذى كان يأخذ طعامه من الله، ويحيا فى شركه معه. وفى الصوم تنتصر بالمسيح ضد الشيطان، فى خداعته من جهة (لقمة العيش)، ونعلن بالعمل صدق الكتاب فى قوله "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان".
والصوم المسيحى لا يقف عند هذا الحد السلبى، بالانقطاع عن الطعام، بل يتجاوزه إلى ناحية إيجابية، فى انطلاق أوسع للنشاط الروحى.
أى أنه مجال مقدس لممارسة الفضائل واقتنائها: والكنيسة فى الصوم الكبير خاصة - تهيئ هذا المجال بطقسها وألحانها وقراءاتها.
لذلك نحن نصوم، لأنها فرصة جيدة للتدرب الحكيم، بإرشاد، على النمو فى محبة المسيح والثبات فيه.
ب - كيف نصوم؟
1- بشكر وفرح:
الصوم بالنسبة لنا ليس فترة قهر وحرمان.. بل هو فرصة لقاء مع المسيح، فى حرية من احتياجات الجسد وملذاته.. أنه أساساً دعوة من المسيح أن نخرج إليه، لنجلس معه، نتمتع بعشرته، وهو يتكفل بإطعامنا كما فعل مع الجموع... دعوة منه أن ننسلخ عن الاهتمام بالأكل والجسد والماديات، لنعيش معه كما فى السماء... فهى لحظات وأيام نقتطعها من الزمانية لنعيش كما فى الأبدية، نتذوق فيها لذة الحياة الملائكية، التى هى بلا هم.. فملكوت الله ليس أكلاً وشرباً، بل محبة وفرح وسلام.. أنها دعوة كريمة من المسيح، لذلك نعيشها بكل شكر، لأننا فى الواقع لسنا أهلاً لها. ونعيشها بملء الفرح، لأننا بالصوم نرتقى فوق مستوى الجسد والحسيات، ونصير متشبهين بالملائكة، لذلك نفرح.
هذا الشكر والفرح والحب، يملأ النفس استنارة وضياءاً... ويعطى كلمة الله فرصة أن تعمل فى أعماق حياتنا، حتى تلتصق الوصية بالنفس، وتسير فى مخافة الله "سمر خوفك فى لحمى".
2- بخشوع:
أنه إحساس الغير مستحق.. أنا يارب لا أستحق أن أصوم معك، وأنال بركة حياة السمائيين، وأتشبه بهم، لأننى إنسان خاطئ وضعيف. لذلك نصوم بإحساس الطاعة المجردة لوصية الله، ونظام الكنيسة، وليس بإحساس المتفضل، والذى يمارس الفضيلة لأنه قديس. ونصوم بإحساس المحتاج لبركات الصوم، وليس بإحساس المستحق لمواهب الله المعطاة فى الصوم.
والصوم بخشوع يدرب النفس على الاتضاع، ومسكنة القلب، وعدم الانتفاخ، والسجود الروحانى.
3- بنسك:
النسك المسيحى هو اختزال كل ما هو غير نافع.. بمعنى أننا لا نأكل إلا ما يحتاجه الجسد فقط، ونمتنع عن إشباعه بالملذات الغير ضرورية. ونمتنع عن الزيارات والمقابلات الغير مثمرة، والغير ضرورية، ونعتكف على الصلاة والعمل (أو المذاكرة) وقراءة الكتاب المقدس.
فى الصوم تختزل الرحلات الترفيهية، ومشاهدة التليفزيون، وسماع الأغانى العالمية، بحيث تصير حياتنا مركزة على العمل الجاد المثمر. ونمتنع عن كل ما هو غير بناء. هذا النسك البسيط يدربنا على العفة، وضبط شهوة الجسد، وشهوة العين، وحب القنية.
4- توبة صادقة:
نحس فيها بالندم على العمر الذى مضى بعيداً عن عشرة المسيح المحبوبة المشبعة. توبة فيها تغيير طريق نحو المسيح ومحبته والارتباط القلبى به. توبة يومية تقوم على فحص النفس والتدقيق فى معالجة أخطائها، وأخذ مواقف حازمة واضحة ضد انحرافات النفس، مع الاعتراف الصريح أمام الكاهن، وصلب الأهواء والشهوات فى نور المسيح.
5- صوم مصحوب بصلوات عميقة طويلة:
مصحوب بقداسات كثيرة نتناول فيها بوعى وفهم لحقيقة جسد الرب ودمه.. صوم مصحوب بقراءات فى الكتاب المقدس والكتب الروحية، بفهم وتركيز وهدف روحى. صوم مصحوب بجهاد ضد محاولات الشيطان، أن يثنينا عن هدفنا وصومنا وطريقنا.
هذه الممارسات، وهذا الجهاد، من شأنه أن يعطى انطلاقاً للروح، وعمقاً للحياة الباطنية الروحية، من أجل مزيد من الارتباط بالمسيح.