الإنسان الحكيم يعرف متي يتكلم ومتي يصمت.. أي متي يحسن الكلام, ومتي يحسن الصمت؟ وإذا تكلم, يدرك ما ينبغي من جهة كمية الكلام ونوعيته.
فمن جهة كمية الكلام, هناك أشخاص يتحدثون بتركيز شديد يحتاج إلي مزيد من التوضيح أو الشرح لكي يفهم السامع. وفي الإتجاه العكسي, يوجد من يطيل الكلام بغير داع, بحيث يمكن تلخيص كلامه في الربع أو العشر أو ما هو أقل..!
فما هي الأسباب في إطالة الحديث؟
قد يكون السبب في كثرة الكلام هو التكرار, تكرار نفس العبارة, أو اللفظة, أو القصة كلها, أو تكرار المعني رغبة في التأكيد عليه. وقد يكون سبب اطالة الحديث, هو ازادة الشرح والإسهاب فيه, كما لو كان السامع قليل الفهم والإدراك! أو قد تأتي الإطالة عن طريق عرض تفاصيل كثيرة مملة.. وربما يكون موضوع الحديث كله غير مهم, أو علي الأقل لا يستحق كل ذلك الوقت الذي ينفق فيه..
وقد يكون سبب كثرة الكلام, هو حماس المتكلم لأمر معين. ويريد أن ينقل هذا الحماس إلي السامع, ظنا أنه بكثرة كلامه عن الموضوع سيجعل السامع يقتنع به أو يهتم.. وربما يحدث أن السامع قد يقتنع, ولكن المتكلم يظل يتكلم: إما لرغبته في إزادة التثبيت والإقناع, أو لأنه يري أن ما يقوله مهم, ويجب عليه أن يقوله. وإما لأن هناك شحنة في داخله لا يستريح إلا إذا قام بتفريغها. وقد يكون الأمر مجرد طبع في المتكلم أن يعيد ويزيد في كلامه!
والاطالة في الحديث قد تؤدي إلي الضيق وإلي الملل. فيسرح السامع ولا يهتم, أو يحاول التخلص من هذا الحديث بطريقة ما. أو يهرب من هذا المتكلم كلما صادفه, إن كانت كثرة الكلام طبعا فيه.
وكثرة الكلام فيها عدم مراعاة لوقت السامع أو مشغوليته. وعدم مراعاة لنفسيته ولأعصابه ونوع عقليته..
لذلك درب نفسك علي أن تتكلم بميزان. ولاحظ الذي يسمعك, ولا تجعله يمل من حديثك. وإن رأيت أنه قد فهم قصدك, فلا داعي لأن تكرر أو تطيل. ولا تعط لأي موضوع أكثر مما يستحق. وابعد عن الكلام في التفاهات..
وحينما تتحدث ابعد عن أخطاء اللسان. كأن تبعد مثلا عن كلمات التجريح والإهانة, وجرح الشعور, والإحراج, وكلام التهكم, ولا تجعل الغير بحديثك موضع فكاهة وسخرية من الآخرين, ولا تتحدث عن عيوب الناس وسقطاتهم. وأذكر المثل القائل من غربل الناس نخلوه. لذلك تحاشي أي كلام يضايق غيرك. واستر الغير ولا تفضحه.
كن أيضا محتشما في حديثك. لا تستخدم أية لفظة بذيئة أو تخدش الحياء. وابعد عن عبارات المجون, وعن الفكاهات غير المؤدبة, وعن المزاح الرديء والعبارات الهابطة. واحرص في كلامك علي احترام غيرك, وليكن الحديث بلباقة.
ولكي يكون كلامك موضع ثقة, ليكن الكلام بصدق ودقة. فلا يجوز أن يعبر الكلام عن أنصاف الحقائق. لأن استخدام أنصاف الحقائق, ليس فيه أنصاف للحقائق. وفي الشهادة أمام القضاء يطلب من الشاهد أن يقول الحق كل الحق, ولا شيء غير الحق.
كما أن الدقة في الكلام, تدعو إلي عدم المبالغة سلبا أو إيجابا, أي يجب أن يكون الكلام بميزان, لا يلجأ فيه المتحدث إلي التهوين أو التهويل.
من أخطاء الكلام أيضا: مقاطعة الغير أثناء الحوار, وتحويل الحوار إلي صراع تعلو فيه الأصوات وكأنه شجار! أو الدخول في جدل عقيم بلا فائدة, أو أن من يحاور غيره يأخذ الجلسة كلها لحسابه, ولا يعطي غيره فرصة مماثلة.
لكل هذا ولغيره, قد يفضل البعض الصمت علي الكلام. وذلك إتقاء لأخطاء اللسان. وفي ذلك قال أحد الآباء الروحيين كثيرا ما تكلمت فندمت. وأما عن سكوتي فما ندمت قط. وقد يكون سبب الصمت أنه لا داعي للكلام.
وأحيانا يكون الصمت فيه لون من الرصانة والهيبة. وفي بعض المواقف, قد يكون الصمت أكثر تأثيرا من الكلام. والشخص الصامت لا يدري الناس ما في داخله, فيعملون له حسابا.
وقد يصمت الإنسان الحكيم, إذا كان موضوع الحديث المثار, في غير اختصاصه أو لم يسبق له دراسته. فإن أبدي رأيا في هذا الموضوع, ربما يعبر عن عدم معرفة قد تدعو إلي السخرية, فيكون الصمت أفضل. وقد قال سليمان الحكيم:
إذا صمت الجاهل, يحسب حكيما
وبعض المتوحدين كانوا يصمتون, لكي تكون لهم فرصة أكبر للصلاة وللتأمل. وقد قال واحد منهم:
لا أستطيع أن أتحدث مع الله والناس في وقت واحد
علي أنه إن كان للصمت فوائده, ففي مناسبات أخري قد يكون الصمت خطية: كأن يصمت الإنسان خوفا من اعلان الحقيقة! أو حينما تكون له فرصة في انقاذ شخص مظلوم, وهو يستطيع انقاذه بشهادة منه! وعموما قد يصبح الصمت خطية إن كان عن خوف, في مجال يجب فيه الكلام!
الحكمة هي إذن أن تعرف متي يحسن الكلام, ومتي يحسن الصمت. [center]